الثلاثاء، 10 يوليوز 2007

المعرفة الإنسانية


المعرفة الإنسانية هي مجموع المعارف التي يتلقاها الواحد منا منذ بداية إدراكه الى نهاية حياته ، و توقف المعرفة عند الإنسان يعني نهايته ، أو بداية النهاية، فالحضارات القديمة والتي أفلت أو انحطت كان سبب ذلك توقف معرفتها وتراجعه، والعلم مرتبط بطلبه، وتوقف طلب العلم بداية الجهل ، والجهل عدو الإنسانية، ولايحارب إلا بالمعرفة ، وأرقى المعرفة أن يعرف الإنسان حقيقته ، وإذا أدرك حقيقته أدرك الحياة ، وإذا أدرك الحياة أدرك سر تواجده ، وإذا أدرك هذا السر فهم رسالة وجوده ، والفهم بداية العمل على تأدية الرسالة ، وهو مرتبط بالمعرفة ، والمعرفة أنواع منها ما هو حسي، ومنها ما هو عقلي، منها ما هو فلسفي، ومنها ماولاترتقي الى المطلق من المعرفة.

فأما الحسية ، وهي مجموع المدارك التي يتلقاها الإنسان بحواسه، وهي المعارف الأولى التي تشكل رصيده المعرفي والثقافي ، وهي معرفة سطحية وبسيطة، وكانت قديما هي الأساس في الوصول إلى حقائق الكون ، وإن كانت نسبة الصواب تبتدئ بأكثر من الصفر ولاتتعدى الخمسين في المائة، وبها بدأ الإنسان في فهمه واكتشافه للكون وخالقه.

أما المعرفة العقلية فهي التي يكون أساسها العقل ، وهي المعرفة التي تعتمد على المنطق و على الحساب وتميل الى التجربة والإستنباط والسبر والتحليل ،وهذه المعرفة تكون قريبة من الصواب ، و تتراوح نسبة الصحة بين الخمسين إلىدون المائة، ولايمكن أن تكون كاملة لأنها نسبية، وهي تكملة للمعرفة الحسية، فالعين ترى الشمس كالقرص في الحجم لكن العلم أثبت أنها أكبر، ولون ماء البحرأزرق لكن في الأصل لالون له.

وأما المعرفة الفلسفية ، وهي التي تميل الى الرأي وأساسها البحث في الكون وعن الحقيقة بالتأمل واستعمال النظر وهي تجمع بين المعارف الحسية والعقلية والعلمية وتعمل على الإنتقال بها الى المطلق، وهذه المعرفة عادة ما تفتح الباب لإستعمال التأمل وتقديم بعض الإجابات عن الأسئلة التي تطرح والتي يعسر وجود الجواب عليها عند العقل ،وهذه المعارف تبقى نظريات قابلة للخطإ والصواب، وجامعة بين المعارف النسبية .

أما المعرفة القلبية ، وهي معرفة الخاصة من الناس وهم قلة، وهم الأكثر إحساسا بالناس ،والأكثر استشعارا لآلامهم وهمومهم ، وهم الذين يتعاطفون معهم ، ويتقاسمون الأفراح والغنى والثروة وكل شيء في الحياة مع غيرهم، ويشاركونهم همومهم وأقراحهم، وهؤلاء هم الذين توصلوا الى المعرفة الحقة ، حيث عرفوا أنفسهم ، وعرفوا إنسانيتهم ، وعلموا دورهم الأساسي في هذه الحياة وهو خدمة الناس والإنسانية والدفاع عنها، والعمل على تلقين ذلك للناس بدون تمييز وبدون مقابل، فقط أن يعم السلام والأمان، وتتحقق العدالة بين بني البشر ويسود الود والحب بين الجميع، ويعلم الجميع ان الناس كلهم واحد في الحياة، وأن الإنسان جزء من الكون، وأنه منه وإليه، بل الإنسان كون أصغر، والكون إنسان أكبر، وأنهم وحدة عظمى تتجلى فيهم عظمة الخالق الذي وهب الحياة لهذا الكون، وجعل الإنسان خليفته في الأرض، إنه التجلي الرباني في هذا الكون، غير أن هذه الكائنات لاتستطيع الرقي إلى المعرفة الربانية، وعندما تحاول ذلك تسقط في التناقض وتجانب الصواب، لأن قدرتها تبقى دائما محدودة ونسبية، ولن تستطيع الرقي بمعرفتها الى المعرفة الربانية، وإن تأتى هذا لبعض الذين اصطفاهم الله لذلك لايمكن أن يتأتى إلى الكل ، و المشكات التي يتوصل بها الخاصة منهم والذين اصطفاهم الرب لذلك هي النبراس الذي به تضاء الطريق للوصول الى الحق والحقيقة، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والعلماء والصلحاء، والإرث المعرفي الذي يقدمونه يبقى الشعاع الذي به يوجه الناس صوب الحق والحقيقة .

إن المعرفة التى نكتسبها بحواسنا أو بعقولنا ليست سوى صورا تقربنا الى الحقيقة، هذه الحقيقة التي تبقى مغلفة ومقيدة بكل ما هو بشري وآدمي، فيجعل النسبي هو الغالب عن المطلق البسيط والذي يتعسر إدراكه بالنسبي المركب، وكان البحث في الميتافيزيقا الأكثر شيوعا عبر مراحل المعرفة الإنسانية قديما وحديثا، وبقي هذا البحث حبيس مجموعة من التصورات والتي عادة ما يكون مصدرها المادي المحسوس ،أو مجموع النظريات التي استنبط العلم والتجربة صحتها وفاعليتها في التقريب بالمعرفة إلى الصواب وإلى الحقيقة ، وكان السؤال الأكثر طرحا و الأكثر بحثا وجدلا هوأصل ومصدر هذا الكون، وكانت الإجابات التي يتوصل إليها المتأملون عبر المدارس المعرفية المختلفة ؛ وإن كانت أحيانا تلامس جزءا من الحقيقة يزيد وينقص حسب المنهج المتبع وحسب الوسيلة المعتمدة ؛ تبقى دون الغرض المطلوب لإشباع الرغبة المعرفية عند الإنسان ، هذه الرغبة والفضول المعرفي الذي يتغدى بالطاقات التي يختزلها الإنسان من الحسية والعقلية والروحية، وهذه الطاقات تجعل قطار المعرفة في سرعة متزايدة لايمكن أن يتوقف، والأسئلة التي يطرحها العقل البشري لاتنتهي أبدا، وبقدر ما تتسع مدارك الإنسان ومعرفته بقدر ما تزداد الأسئلة التى لايجد لها جوابا وبالتالي يكون ذلك منفذا لطرح أسئلة جديدة، والأجوبة التي يتوصل إليها الإنسان تصبح حلقة جديدة تنضاف الى سلسلة المعرفة الإنسانية وتضمن الإستمرارية والتطور لها.

غير أن هناك معرفة باطنية حقة أوأكثر قربا من الحقيقة لايصل إليها الحس ولا يدركها العقل، وقد يعتبرها أصحاب المعرفة الحسية أو العقلية ضربا من الخيال أو البحث في ما هوغير موجود ، أوبعيد المنال ، أو هو من الخرافات والأساطيرالتي لايتقبل المنطق ولا العقل الإقرار بها، غير أن عدم توصل الحواس أو العقل إليها لايعني عدمها بل أن هناك طاقة خفية وقوية لها من القدرة ما لايمكن للعقل ولا الحس إمتلاكه ، وهذه الطاقة هي الطاقة الروحية الباطنية التي يمتلكها كل واحد منا، وهي خارقة وقوية ، وقوتها تزداد اتساعا كلما تمكن الواحد منا من اكتشافها ومعرفتها وإدراكها، وهذه الطاقة الروحية هي القادرة على سبر واكتشاف هذه المعارف وجعلها في المتناول ، هذه المعارف هي عادة عبارة عن تجارب أو وصفا لحالات مر بها ذلك الإنسان الذي يرى بروحه ما لايراه به غيره بحواسه وعقله، وأصحاب هذه الطاقات ، ورغم قلتهم إلا أن تأثيرهم في المجتمعات الإنسانية يكون قويا.

والسر في هذه المعرفة يكمن بالخصوص في التخلص من القيود المادية التي تتحكم في قدرة الإنسان على استكشاف العالم الفوق مادي ، حيث يسبح العارف في الملكوت الأعلى بعيدا عن الأفكار و الصورالتي تقيد طاقاته، عندها يستطيع التوصل الى حقائق الخلق والكون بشكل جلي، وهذه المعرفة إذا لم يتمهل الواصل إليها في شرحها أو تبيانها فإنه سيسقط في التناقض أوالخلط بين ما هو مادي وما هو روحي، فيحكم الناس عليه بالجهل أو الجنون، وهذا حسب منطقهم، لكن واقع الحال أن الرجوع الى الآدمية في إصدار مثل هذه الأحكام والتسرع في تفسيرها هو السبب في هذا الخلط.

إن الإنسان كلما ارتفع وارتقى بنفسه وتخلص من قيوده الآدمية انتبه وزالت الغشاوات التي هي صور دنيوية حاجبة للرؤيا عنده، عندها يستفيق ويتطلع إلى ما هو أعلى وأرقى وأجمل، فتظهر له الحقائق الربانية و النورانية والتي بها يتواصل مع العالم العلوي ويرقى إلى مرتبة الكمال،ويتأتى هذا من خلال حالتين وهما :

الحالة الأولى - وهذه الحالة لايصلها العامة من الناس إلالماما عند النوم وعن طريق الأحلام الإجابية وليس الكوابيس الشيطانية ، فينتقل الإنسان من المعرفة النسبية إلى المعرفة المطلقة وذلك لحضة سكون عالمه المادي الآدمي .

الحالة الثانية – عند الموت،وهذه المرحلة إجباريةوتابتة، فيها ينتبه الإنسان الى الحقيقة الكبرى فيرى ما لايمكن تصوره في الحياة ،فيظهر له كل شيء عكس ما كان يتصوره في الدنيا، فيراجع شريط حياته كله ويحكم عليه، فيكون الحكم من صنف كسب أفعاله وإنسانيته في الحياة الدنيا، وما خلفه للناس من إرث ورأسمال.
هنا أصل الى أن الناس نيام إذا ماتوا إنتبهوا، فالموت، الذي هو نهاية عند البعض، بداية الحقيقة المطلقة ، وهذه القولة وإن جاءت من أهل التصوف التأملي ، فإن نسبة الصحة فيها قريبة من الحقيقة المطلقة ، فالأرض مرتع الغفلة عن الحق والصواب ،وقد يميل الإنسان نحو الملذات والشهوات فينغمس فيها بدون رقيب ولاحسيب، فيتيه في دروب الهوى والغواية حيث يتصور كل فعل يقوم به صح وحق له، وهو في حقيقة المطاف يؤدي نفسه، ويؤدي غيره، بل يؤدي الإنسانية جمعاء بالأثر الذي سيترتب على أفعاله، والمعرفة الروحية هي الميزان الذي يقيم به سلامة المعرفة واقترابها مالإنسانية، وهي معرفة نسبية، ن الحقيقة التي ليست في النهاية سوى خدمة الناس والإنسانية ، فكل معرفة أو علم يسعد
الناس ويخدمهم حق هو روحي وهو أرقى المعارف وأقربها الى الحقيقة ، والكل يشمل المعرفة
.