الجمعة، 5 أكتوبر 2007

السلطة الإنسانية


إن مصطلح السلطة يحمل في طياته سحرا ورهبة ، وقوتة تكمن في كونه يجمع بين هذين الأمرين ،والمالك لهذه السلطة إما عادل أوجائر، والعادل من أحسن العمل بها ، والجائر من أساء بها على نفسه وغيره، ولكل واحد من الناس له حدود المسؤولية في السلطة، وبقدر هذه الحدود يتحمل نصيبه فيها، وعليه أن يتيقن أن السلطة منه تمتد ، والعارف لها يتمكن منها، والناس في السلطة مراتب، أعلاها قيادة الإنسانية كلها، وأدناها سلطة النفس ، والسلطة قد تكون منحة من الله ، وقد تكون من الناس ، وقد تكون من النفس.

أما السلطة الممنوحة من الله للإنسان فهي الخلافة في الأرض ، وهي أرقى سلطة عند الإنسان ، والناس مسؤولون ومحاسبون في النهاية عليها، ولهذه السلطة أشكال ومراتب، ومن أشكالها السلطة على النفس و الجوارح، ومن مراتبها الإمارة والإمامة والنبوة وغيرها. وأما السلطة الممنوحة من الناس، وهي المسؤولية في الحكم والتسيير وتدبيرالشأن، وتوجيه العامة، وفرض القوانين، وبناء المؤسسات، والقيادة، وأما السلطة الممنوحة من النفس فهي السلطة الآدمية للإنسان، وبها يتصرف كبشر، ويعمل على تحقيق وإشباع رغباتة وحاجياته.

وهذه السلط تزداد وتنقص حسب شخصية الواحد وحسب قدراته، و ليس الناس على حرف واحد في ذلك ،فمن الناس من يسعى بكل ما أوتي من قوة لإكتساب السلطة بل وللسيطرة والتسلط، وهذا النوع من الناس ميال إلى الآدمية وحب التملك والتسلط على الغير وهذا مناف للأخلاق ومخالف للمبادئ والقيم الإنسانية، فالسلطة أمانة ومسؤولية وهي تكليف وأخذ على العاتق، وليست ترفا ولا تشريفا، والمرشح للسلطة يجب أن يكون قادرا عليها ومقدرا لها، وأن لايكون همه ورغبته في التحكم في رقاب الناس بل في إقرار الحق والدود عن الناس وحفظ إنسانيتهم و الوقوف الى جانبهم، ولن يتأتى هذا إلى بالرجوع الى الإنسانية .

والسلطة عبر التاريخ لها محطات كثيرة ومتباينة، العاقل يستخلص منها الحكم والعبر ، وقد عرفت الإنسانية نماذج من السلاطين، فمنهم الطغات، ومنهم الجبابرة، ومنهم الفضلاء والعادلين، ومنهم الإنسانيون والصلحاء، والكل يقود الرعية وفق ما يراه حق وحقيقة ، غير أن الأمرأحيانا يكون على خلاف ذلك، وقلة هم رجال السلطة القياديون الشرفاء ، والإستمرار في السلطة يسقط في الإستبداد في الغالب ، والخلاص في ذلك يكون بالتداول ، والحكمة الربانية قضت بذلك في جميع الإمور ، فمهما طال حكم الفرد فإنه آل إلى زوال ، غير أن التغيرقد يكون إلى السيء كما قد يكون إلى الأحسن ، والعبرة في الخواتم، وجور السلطان آل الى الزوال مهما عظم ، والسلطان العادل حكمه الإستمرار، وسقوط السلطان العادل يكون إما في ضعفه ، أو في كثرة الرعاع والجهلة في رعيته.

ومن المفاسد التي تهددالسلطة العادلة ، إذا فقد الناس إنسانيتهم وغلبوا شهواتهم على أخلاقهم، ومالوا إلى الجور لبعضهم، أو سكتوا عن الحق، وشهدوا بالزور، وكثر الراشي والمرتشي بينهم، عند ذلك يرفع سلطان العدل منهم ويحل محله سلطان الهوى ، وهذا السلطان يحكم فيهم بغير العدل والإنصاف، فيظهر الجور ويعم الفساد، فيعيش الناس عيشة ضنكا .

والتطور الذي لحق السلطة في عصرنا ، جعل القانون فوق الكل، والناس سواسي أمامه ، والسلطة تطبق وفق القرائن المادية، ومن ظهر فساده نال عقابه، وهذه القرائن قد تظهر وقد لاتظهر، والقوانين الوضعية لاتحمي المغفلين والسدج، وهناك من قد يتملصون من القوانين، ومن أحسن التخفي والتستر فر من العقاب، والأقوياء في الغالب يعرفون ويحسنون ذلك، وقد ينسل معهم الأذكياء، ومن فاته ركب ذلك بقي في الأسفل، فيقع عليه جور الأقوياء ولاسند له في ذلك إلا الرشوة والهدايا ، وهي قريبة من الأتاوي وسكوك الغفران التي كان الناس يقدمونها للأقوياء في زمن الطغاة ، زمن ابتعاد الناس عن إنسانيتهم، هكذا يكون لهذا التطورأثر عكسي،لأن مفهوم السلطة مفهوم مادي،و الحقوق تنبني على الحقائق المادية والملموسة ، والجانب الأخلاقي معطل أو شبه ذلك.

غير أن السلطة الحقة هي سلطة الإنسانية والناس أجمعين، فالكل سلطة، لأن أصل السلطة لله ،وقد حمل الناس هذه المسؤلية كل في موقعه وحسب قدرته ، وحتى لاتعم الفوضى لابد من اختيار قائد يتولى الإشراف على تقسيم المهام والسلط، ولايجب أن يفرض هذا القائد على الناس ، وأن لايدوم الى الأبد ، لأن الدوام من خاصية الرب الأحد، ولابد من تفريق السلط بين القياديين، وأن يكون على رأسهم المرشد، والمرشد لاتقدس سلطته، بل تحترم وتبجل، والأمر في النهاية للناس فالسلطة التي توافق الإنسانية وتدافع عنها هي السلطة الحقة، وغير ذلك ظلم وجور ومخالفة للحكمة الربانية وابتعاد عن مفهوم السلطة الحقة، سلطة الرب في الناس والكون.

ولهذه السلطة أشكال، وهي لاتخرج عن نطاقين أساسين: إما مادي وهوالأساس الأول، أو روحي وهو الأساس الثاني، وكلاهما يكمل الآخر، ولاتستقيم السلطة إلا بهما. فالأساس المادي يضم كل ما هو مادي في السلطة، ولايسمح بطغيانه ، لأن في ذلك مفسدة ، وهوما يعيشه العالم اليوم ، حيث طغت القيم المادية على النفس ، وأصبح الحق والصحيح مرتبط بالمادي ، والروحي جانب رماه الدهر وراء ظهره. والأساس الروحي هو الذي يشمل الجانب الفكري و الأخلاقي والنفسي والديني، وهذا الجانب أضحى غريبا بسسب عدم الإقبال عليه من طرف الكثير من الناس اليوم، وانشغالهم بما هو مادي صرف، وغربته هي التي قادت إلى التفكير بإحيائه بين الناس لأنه يشكل النقص في كمال حقيقة السلطة وتمامها.

إن السلطة الحقيقية بمفهومها الإنساني الأسمى هي سلطة الرب ،وهي التي ستسود في الأرض ،وتعطيلها راجع إلى ابتعاد الناس عن حقيقتها وانشغالهم بالجانب المادي من السلطة، وإرجاع العمل بها لايتحقق إلا بالمقومات الأتية :

الحب : ولابد من السلطة أن تكون مبنية على حب بين الراعي والرعية ، و أن يكون الحب متبادل بين الجميع، والكلاهما يقدر ويحترم الآخر .

التواضع : وهوسمة تجعل الناس يحبون القائد المسؤول ويثقون بمواقفه ويحسون بقربه، ولاتتحقق سياسة القرب إلا بالتواضع والتحلي بالنبل والفضيلة.

الإيثار : وهنا تكمن التضحية ويتجلى العزم على العمل لصلح الرعية وعدم الجري وراء المنفعة الخاصة، و الكسب الحرام.

الإنصاف : وهوإقرار الحق والدفاع عنه وانصاف المضلوم وإرجاع الأمور الى نصابها، وبسط الأمن والأمان وتحقيق العدل والمساواة .
الثقوى : وهو التدين والإخلاص في العمل لله، واعتبار السلطة التي تملكها ليست لأجلك وإنما هي لصالح الناس والإنسانية ، وهي أمانة من الرب في عنقك وعلى
عاتقك، وأنت مسؤول أمام الناس والتاريخ والله في النهاية