السبت، 9 فبراير 2008

كل عام والإنسانية بألف خير

هـا نحن على أبوب السنة الميلادية الجديدة 2008، نسأل الله أن يجعلها أفضل من السنة الفارطة، بأن يعم السلم والسلام والأمن والأمان وأن تتحقق فيه سعادة الناس ويعم فيها الخير والرخاء وينقرض البؤس والشقاء ويعيش الناس في طمأنينة وحب وهناء.

لكن، ماذا تحقق في السنة التي مضت في مجال الإنسانية وحب الناس؟ قد يصعب الإجابة عن هذا السؤال في حينه لأن الأمر يتطلب الوقوف عن كل كبيرة و صغيرة من القضايا التي عرفها العالم وتقييمها من الناحية الإنسانية، هل كانت الحصيلة ايجابية أم لا؟ ماذا استفادت و ماذا خسرت؟ وما هي النواحي التي ضاعت فيه الإنسانية وخسرت؟ وأين هي الأمور التي كانت في صالح الإنسانية وتحققت؟ و في الأخير هل يحق لنا أن نقول إن الإنسانية بخير؟

لست من المتشائم المسود الأفق، ولا من الساخط عن كل شيء، ولا الرافض لأي شيء، ولا العبوس القمطرير، ولا الحاسد الناقم، ولا المتمرد البائس، ولا المحروم الحاقد، ولا المتطرف الشاذ. كما لست من المتفائل المبالغ في التفاؤل، ولا الغارق في الفرح السعيد بشقائه، ولا المتلذذ بكل شيء، ولا العابد لهواه العبثي في الحياة، ولكني من الذي يزن الأمور بموازن الحق، بعيدا عن الهوى والميول الزائد عن الصواب.

سأدل بدلوي في خضم هذا المعترك الحافل الصعب، فمن الناس من سيوافقني الرأي منهم من سيخالف، وفي كل خير إذا كان المقصود خدمة الناس والحياة، فالعيب ليس في الاختلاف في الرأي، بل العيب في عدم قبول الرأي الآخر وإقصائه، والتعصب للرأي الواحد والإصرار على إقصاء الأخر.

قبل هذا أقول أن العالم شهد هذه السنة تحولا كبيرا في العديد من المجالات العلمية والعملية المحمود أثرها على الناس والإنسانية، وقد لا يسعني الوقت إلى جردها، لكن الراغب في البحث فيها سيجدها في التقارير التي تضعها المنضمات المجدة في ذلك رهن إشارته، وكم يسعد الواحد منا وهو يطالع مثل هذه التقارير، فهو يسعد بسعادة الناس ويشقى بشقائهم، خاصة وأن تلك الأرقام تدفع إلى السرور و التفاؤل، لكن المبالغ في الفرح والتفاؤل بذلك سينسيه الجانب الآخر في المسألة وهي الإنسانية بصفة عامة.

أخي في الإنسانية، سأنطلق من رسالتي هذه في تقييم الوضع من الاقتصاد ثم السياسة وأعرج بالإجتماع وأختم بالقيم التي أعتبرها الهم الأكبر والخلاص الأنجع لجل المشاكل العالقة بهذه الأرض.

الوضع الإقتصادي المتردي

كم هي البرامج التي طرحت من أجل وضع حد للمشاكل التي تعاني منها الإنسانية، وكم هي المبادرات و كم هي الخطط وكم هي الخطابات وكم هي الرسائل وكم هي المقترحات التي قدمت سواء في المنتديات الدولية وغيرها، بل وفي أي فرصة عامة وخاصة يستغلها بصدق أو بغيره أصحاب الحل والعقد أومن لهم الشأن في ذلك، من أجل لفت الانتباه إلى القضايا الإقتصادية التي يعرفها العالم اليوم، لكن ماذا سنقول لضمائرنا إن كانت بالفعل حية، بل ماذا سنقول للرب رازق الكون و قد منحنا من النعمة ما لا يمكن حصره، فكم هي نعم الرب في هذا الكون: موارد الطاقة لا تعد، ومع ذلك الإنسان يعاني من الخصاص فيها، الموارد الغذائية الطبيعية منها والمصنعة جد متوفرة، والثروات عند جميع الشعوب موجودة، و التقارير لا تتحفنا سوى بتحسن الإنتاج هنا وتوفر الفائض هنالك، كل هذا بل وفي المقابل له نسمع التقارير تتكلم عن الفقر والفقراء، وعن الجياع والمحرومين وعن البطالة والمشردين، والصور القاتمة عن الوضع البئيس للناس تصلنا عبر الفضائيات من العديد من بقاع هذه الأرض.

أخي في الإنسانية كم هي قبيحة تلك الصور التي تصلنا عبر وسائل الإعلام للأطفال والنساء والشباب والشيوخ والعجزة من جميع أنحاء هذا العالم الجميل الغني بثروته التي حبا الله بها هذا الكون ليسعد بها الإنسان، لكن العكس نجد بل أحيانا تكون نقمة عليه، هذه إفريقيا مثلا الغنية بثرواتها وما تعانيه من ويلات الفقر والجوع، ماذا فعلت الصناعة والتقدم العلمي والتطور في الإنتاج وغير ذلك سوى زيادة الشقاء، ترف وغنى هنالك وفقر مدقع هناك، وما يترتب عن هذا من بطالة و هجرة غير مقننة، واستغلال للوضع من دوي النفوس المريضة الجشعة والراغبة في الغنى على حساب الآخر الضعيف.

الوضع السياسي المتأزم

السياسة وما تحمله من سحر أبدي في النفوس التواقة إلى الغد الأفضل للناس جمعاء، هذا المصطلح العام في مدلوله الشامل في مضمونه، هو مفتاح للعديد من الإشكاليات لو مورس بالشكل الأصح والسليم بعيدا عن الديماغوجية والنفاق، وقريبا من الحكمة والتعقل، و قام الساسة بكل ما يجب عليهم القيام به، وصدقوا في سياستهم مع أنفسهم ومع الناس.

لكن الذي نراه اليوم هو غلبة المصلحة الآنية و الخاصة والدفاع عن الفئة المحضوضة والمقربة، والتفكير القصير الضيق المحدود الأفق بعيدا عن تحقيق المصلحة العليا للإنسانية وتحقيق الرفاهية والعيش الكريم للجميع.

أخي في الإنسانية ماذا جنينا نحن بني البشر من هذه السياسات التي لا تعير للقيم الإنسانية أي اعتبار سوى الويلات والغم والهم، مازالت العديد من المجتمعات الإنسانية تعيش أوضاعا لا إنسانية بسبب ابتعاد ساستها عن القيم الإنسانية وسقوطها في السياسات التي يمليها الهـوى والأنا الأمارة بالسوء وحب النفس وتغليب المصلحة الدنيا والابتعاد عن هم الجماعة والسواد الأعظم من الناس، فأصبحت هذه السياسات تولد القهر الذي جاءت هي في الحقيقة لمحوه، تولد الاستغلال الذي جاءت هي للقضاء عليه.

أخي في الإنسانية إذا نظرنا إلى عالمنا اليوم وألقينا صورة له من الأعلى لن نرى سوى السواد الذي ينبعث من بؤر التوتر الكثيرة التي تزداد عوض أن تنقصها السياسة، كم هي النزاعات والحروب المشتعلة بين البشر هنا وهناك داخل هذه الأرض التي خلق الإنسان فيها ليسعد لا ليشقى، نعم حروب وحروب من أجل مصالح فارغة وبسبب سياسات كاذبة مغلوطة توهم بني البشر على أنهم يتصارعون من أجل مصالح عليا لكن في الحقيقة ليس ذلك سوى سراب وراء سراب، إن المصلحة العليا في الحياة السعيدة والآمنة والدفاع عنها ونبذ العنف و الإقتتال والحرب وقتل الأبرياء من الناس.

أخي في الإنسانية كم هي النزاعات المفتعلة والطائشة والتي بها ومن أجلها تسرف الأموال الطائلة من أجل التسلح والعمل على التدمير والفناء وقتل الحياة، فتهدر هذه الأموال عوض أن تنفق في التنمية الإنسانية، وتدفع في المجالات التي تخدم الحياة والبقاء لبني الإنسان، و ماذا أنجز هذه السنة التي ودعنها في هذا المجال، حري بنا أن نعترف نحن البشر أننا أسرفنا في القتل والتقتيل فيما بيننا، وحتى الشعوب الإنسانية بقت مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع لا ناهي ولا منتهي، عار على الإنسانية أن تتفرج في هذه المجازر التي تقترف بأسماء مختلفة، تارة من أجل الحق، وتارة من أجل ترسيخ الديموقراطية، وتارة بإسم الدين، وتارة بما يسمونه النيران الصديقة، متى سنكف عن هذا الإجرام بحق الإنسانية ونعود إلى رشدنا والى الصواب وإلى الحكمة، و نوقف أصوات الرصاص والتفجيرات وأنين المصابين ونعوش الضحايا.

الوضعية الإجتماعية الصعبة

لا يمكن السكوت عن الحالة المتردية التي تعيشها الإنسانية من الناحية الاجتماعية، فالكيل طفح، والصور القاتمة ببشاعتها يصعب صرف النظر عنها إلا إذا وضعة عليها إشارة "غير صالح لمن في قلبه درة حب للإنسانية"، حالة كرسها الوضع الاقتصادي المتردي.

لا نسمع هذه الأيام سوى بأمراض جديدة مستعصية العلاج تحصد الأرواح وتنتشر في المجتمعات الضعيفة بشكل أسرع وقد لن يسلم منها أي مجتمع إذا ما استفحل انتشارها وداع بين بني البشر وانتقلت إلى أوبئة تفتك بالناس والحياة، ماذا فعلت المدنية المتحضرة إلى الآن بخصوص الأوبئة التي مازال الناس يعانون منها خاصة الفقراء منهم في القارات الفقيرة، هل إن أمن الأغنياء وحموا مجتمعاتهم من تلك الأمراض وأهملوا إخوانهم في الإنسانية في باقي ربوع الأرض يكونوا قد قاموا بما يجب؟ لا وألف لا، بل خانوا الأمانة وفرطوا في الإنسانية.

لقد عان المجتمع الإنساني السنة الفارطة من العديد من الكوارث التي أصابته بسبب تصرفات بعضنا غير المحسوبة و المسؤولة في الأرض، أهلكت الحرث والنسل وأتلفت العديد من الخيرات، لكن التضامن الإنساني لم يكن بحجم ذلك الضرر الرهيب الذي أصاب الناس لأن المساعدات والإعانات تتحكم فيها عادة دواعي المصلحة والتبعية والولاء للقوي المالك للثروة والإمكانيات.

ومع ذلك فأن الخطر الأكبر الذي سيتهدد الإنسانية والنظام الإنساني من الناحية الاجتماعية هو انتشار الإجرام والجرائم المنظمة التي ستهدد الاستقرار والأمن الإنساني بصفة عامة وسيطال هذا المرض الخطير الحياة والمجتمعات بدون استثناء، خاصة إذا اشتدت شوكته وقوي نفوذه، وسأعود لاحقا إلى هذا الموضوع بمفرده.

القيم الإنسانية المنهارة

ماذا بقي من القيم الآن في مجتمعنا الإنساني الحديث أو"الحداثي"كما يرغب الجميع أن يصف به العالم اليوم، ترى، هل الحداثة هي محاربة القيم ونبذها؟ هل صحيح هي التي تتسبب في المشاكل والتخلف؟ هل الأخلاق والدين والثقافات الشعبية النبيلة هم عوائق التنمية والتطور؟

أخي في الإنسانية كلما رجعنا إلى الوراء واستقرأنا التاريخ إلا واستخلصنا أن الأمم القديمة انحطت بسبب تخليها عن القيم الإنسانية الفاضلة والشيم النبيلة التي كانت العملة السائدة بين المجتمعات الإنسانية و التي على رأسها الحق و العدل والفضائل الحميدة والدين الصحيح وطلب العلم والمعرفة واحترام الحياة.

لقد تراجع التكافل والتضامن في المجتمعات الصغيرة وأصبح الكل لا يهمه سوى مصلحته الخاصة، وانعكس هذا بشكل كبير في عالمنا الإنساني الكبير، وأصبح الرابط الذي يربط بين الأمم المنافع المادية بعيدا عن قيم والأخلاق والرابط الدينية والتاريخية، وإن أثيرت هذه القيم في الخطب وفي المناسبات الرسمية فهي فقط للاستهلاك الإعلامي وترمي إلى دغدغة العواطف الدبلوماسية التي لا تتعدى الورقة التي كتبت فيها، أو آذان المستمعين لها.

أخي في الإنسانية إن أكبر قيمة يجب على كل من يهمه أمر سعادة الناس في هذه الأرض أن يهتم بها ويدافع عليها هي إنسانية البشرية، هذه القيمة التي لم تعد تساوي شيء في بورصة قيم الحياة مع الأسف، مما جعل الناس يميلون إلى المغامرات و الحماقات من أجل تحقيق بعض من مآربهم الآنية دون أي اعتبار للقيم والأخلاق، فكثر الإجرام والانتحار وقوارب الموت والتمرد والتصعلك ونخاسة لحوم البشر وأعضائه، وبدأ الناس لا يعيرون للأبوة ولا للأمومة ولا للبنوة و لا للأخوة ولا للجوار ولا للصداقة إلا النفر القليل منهم و في بعض المجتمعات التي مازالت القيم عندهم تساوي الحياة.

ومع ذلك، فالكون جميل والحياة جميلة والأرض بألف خير مادام عباد الله الصادقين المخلصين في عبادتهم و المحبين للإنسانية والمدافعين عليها موجودون بها، وبهذا لن نبالغ إذا قلنا بأن الإنسانية ستكون بخير، وكل عام والإنسانية بألف خير.